الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»
.تفسير الآيات (199- 200): وقوله سبحانه: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف...} الآية: وصيَّةٌ من اللَّه سبحانه لنبيِّه عليه السلام تعمُّ جميع أمته، وأَخْذٌ بجميع مكَارِم الأخلاقِ. قال الجمهور: معنى: {خُذِ العفو} اقبل من الناس في أخلاقهم وأقوالهم ومعاشرتهم ما أتى عَفْواً، دون تكلُّف، فالعَفْوُ هنا: الفَضْل والصفو، قال مكِّيٌّ؛ قوله تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف...} الآية. قال بعض أهْل المعاني، في هذه الآية بيانُ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «أُوتِيتُ جَوَامِعَ الكَلَمِ»؛ فهذه الآية قد جَمَعَتْ مَعَانِ كثيرةً، وفوائدَ عظيمةً، وجمعتْ كلَّ خُلُقٍ حَسَن؛ لأَنَّ في أخذ العَفْوِ صلَةُ القاطعينِ، والصفْحَ عن الظالِمينَ، وإِعطاءَ المانعين، وفي الأَمر بالمعروف تَقْوَى اللَّه وطاعته، وصِلة الرحِمِ، وصَوْن الجوارحِ عن المحرِّمات، وسمَّي هذا ونحوه عُرْفاً؛ لأن كلَّ نَفْس تعرفه، وتركَنُ إِليه، وفي الإِعراض عن الجاهلين: الصبرُ، والحِلْم، وتنزيهُ النفْس عن مخاطبةِ السفيه، ومنازعةِ اللَّجوج، وغيرُ ذلك من الأفعال المرضية. انتهى من الهداية. وقوله: {وَأْمُرْ بالعرف}: معناه: بكلِّ ما عرفَتْه النفوسُ ممَّا لا تردُّه الشريعة؛ ومِنْ ذلك: «أَنْ تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَكَ، وتَصِلَ مَنْ قَطَعَكَ، وتَعْفُوَ عَمَّنَ ظَلَمَكَ...» الحديث، فالعُرْفُ بمعنى المعروف. وقوله عز وجل: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، هذه الآية وصِيَّة من اللَّه سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم تعمُّ أمته رجُلاً رجلاً، والنَّزْغ: حركةٌ فيها فسادٌ قلَّما تستعملُ إِلا في فَعْلِ الشيطان؛ لأن حركته مسرِعَةٌ مفسدة؛ ومنه قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يُشِرْ أَحَدُكُمْ عَلَى أخِيهِ بالسِّلاَح؛ لاَ يَنْزَغِ الشَّيْطَانُ في يَدِهِ»، فالمعنى في هذه الآية: فإِمَّا تَلُمَّنَّ بك لَمَّةٌ من الشيطان، فاستعذ باللَّه، وعبارة البخاريِّ: يَنْزَغَنَّكَ: يستَخِفَنَّكَ. انتهى. وَنَزْغُ الشيطان عامٌّ في الغَضَبِ، وتحسينِ المعاصِي، واكتساب الغوائل، وغير ذلك وفي جامع الترمذيِّ عن النبي صلى الله عليه وسلم قالَ: «إِن لِلْمَلَكِ لَمَّةً، وللشَّيْطَانِ لَمَّةً....» الحديث. قال * ع *: عن هاتين اللَّمّتَيْنِ: هي الخواطِرُ من الخير والشر، فالآخِذُ بالواجبِ يلقى لَمَّةَ المَلَك بالامتثال والاستدامة، وَلَمَّةَ الشيطانِ بالرفْضِ والاستعاذة، واستعاذ: معناه: طَلَب أَنْ يُعَاذَ، وعَاذَ: معناه: لاذ، وانضوى، واستجار. قال الفَخْر: قال ابنُ زيد: لما نَزَل قوله تعالى: {وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «كَيْفَ يَا رَبِّ، والغَضَبُ؟» فَنَزَل قولُه: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ}، وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يدلُّ علَى أن الاستعاذة لا تفيدُ إِلاَّ إِذا حضر في القَلْبِ العِلْمُ بمعنى الاستعاذة، فكأنه تعالَى قال: اذكر لَفْظَ الاستعاذة بلسانك؛ فإن سميعٌ، واستحضر معاني الاستعاذة بِعَقْلِكَ وقَلْبِك؛ فإِني عَليمٌ بما في ضَمِيركَ، وفي الحقيقة: القوْلُ اللسانيُّ دون المعارفِ العقليَّة، عديمُ الفائدة والأثر. انتهى. .تفسير الآيات (201- 202): وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طائف مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ...} الآية خرَجَتْ مَخْرَجَ المَدْحِ للمتقين، والتقوى هاهنا عامَّة في اتقاء الشِّرْك والمعاصِي، وقرأ ابن كثير وغيره: {طَيْفٌ}. قال أبو عليٍّ الطائفُ كالخَاطِرِ، والطَّيْف كالحَطْرة، وقوله: {تَذَكَّرُواْ}: إشارة إِلى الاستعاذة المأمور بها، وإِلى ما للَّه عزَّ وجلَّ من الأوامر والنواهي في النازلة التي يقع تعرُّض الشيطانِ فيها، وقرأ ابنُ الزُّبَيْر: {مِن الشَّيْطَان تَأَمَّلُوا فإِذَا هُمْ}، وفي مُصْحَفِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ {إِذَا طَافَ مِنَ الشَّيْطَانِ طَائِفٌ تَأَمَّلُوا}، وقوله: {مُّبْصِرُونَ}: من البصيرة، أي: فإِذا هم قد تبيَّنوا الحقَّ، ومالوا إليه، والضميرُ في {إخوانهم}، عائدٌ على الشياطين، وفي {يَمُدُّونَهُمْ} عائدٌ على الكُفَّار، وهم المرادُ ب الإِخوان، هذا قول الجمهور. قال * ع *: وقرأ جميعُ السبعة غير نافع: {يَمُدُّونَهُمْ}؛ من مَدَدتُّ، وقرأ نافعٌ: {يَمِدُّونَهُمْ}، من أَمْدَدتْ. قال الجمهور: هما بمعنًى واحدٍ، إلا أن المستعمَلَ في المحبوب أَمَدَّ، والمستعملَ في المكروه مَدَّ، فقراءة الجماعةِ جارِيَةٌ على المنهَاج المستعمل، وقراءةُ نافع هي مقيَّدة بقوله: {فِي الغي}؛ كما يجوز أَنّ تقيِّد البِشَارَةَ، فتقول: بَشَّرْتُهُ بشرٍّ وَمَدُّ الشياطينِ للكَفَرَةَ، أيْ: ومَنْ نَحا نحوهم: هو بالتزيين لهم، والإِغواءِ المتتابعِ، وقوله: {ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ}؛ من أَقْصَرَ، والضميرُ عائدٌ على الجميع، أي: هؤلاء لا يقصرون عن الإغواء، وهؤلاء لا يُقْصِرُونَ في الطاعة للشياطين. .تفسير الآيات (203- 204): وقوله سبحانه: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها}، سببها فيما رُوِيَ أن الوَحْيَ كان يتأخَّر أحياناً، فكان الكُفَّار يقولون: هَلاَّ اجتبيتها، أي: اخترتها، فأمره اللَّه عزَّ وجلَّ؛ أنْ يجيب بالتسْلِيمِ للَّه، وأَنَّ الأمر في الوحْي إِليه ينزِّله متى شاء، ثم أشار بقوله: {هذا بَصَائِرُ} إلى القرآن، أي: علاماتُ هُدًى، وأنوارٌ تستضيء القلوبُ به. وقوله سبحانه: {وَإِذَا قُرِئ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، ذكر الطبريُّ وغيره؛ أَن أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم كانوا بمكَّةَ يتكلَّمون في المكتوبةِ بحوائجهم، فنزلتِ الآية أمْراً لهم بالاستماع والإنصات في الصَّلاة، وأما قولُ من قال: إِنها في الخُطْبة، فضعيفٌ، لأن الآية مكِّيَّة، والخُطْبَة لم تُكنْ إِلا بعد الهِجْرة، وألفاظ الآية على الجملة تتضمَّن تعظيم القُرْآن وتوقيرَهُ، وذلك واجبٌ في كل حالة، والإِنصاتُ: السكوتُ. قال الزجَّاج: ويجوز أن يكون: {فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ}، أي: اعملوا بما فيه، ولا تجاوزوه. قال ابنُ العربيِّ في أحكامه: روى الترمذيُّ، وأبو داود، عن عُبَادَة بْنِ الصَّامِتِ، قال: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصُّبْحِ، فَثَقُلَتْ عَلَيْهِ القِرَاءَةُ، فَلَمَّا انصرف، قَالَ: «إِنَّي لأَرَاكُمْ تَقْرَؤونَ وَرَاءَ إمامكم، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أيْ وَاللَّهِ، فَقَالَ: لاَ تَفْعَلُوا إِلاَّ بِأُمِّ القُرْآنِ؛ فإِنَّه لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِهَا» وقد رَوَى الناسُ في قراءة المأمومين خَلْفَ الإِمام بفاتحةِ الكِتَاب أحاديثَ كثيرةً، وأعظمهم في ذلك اهتبالا الدارقطنيُّ، وقد جمع البخاريُّ في ذلك جزءًا، وكان رَأْيُهُ قراءةَ الفَاتحَةِ خلْفَ الإِمامِ في الصلاة الجهريَّة، وهي إِحدى روايات مالكٍ، وهو اختيارُ الشافعيِّ. انتهى، وقد تقدَّم أول الكتابِ ما اختاره ابنُ العَرَبِيّ. .تفسير الآيات (205- 206): وقوله سبحانه: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ...} الآية: مخاطَبةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وتعمُّ جميعَ أمته، وهو أمر من اللَّه تعالَى بذكْره وتسبيحِهِ وتقديسِهِ، والثناءِ عليه بمحامدِهِ، والجمهورُ على أن الذِّكْر لا يكون في النفْسِ، ولا يراعَى إِلا بحركه اللسَانِ، ويُدلُّ على ذلك من هذه الآية قوله: {وَدُونَ الجهر مِنَ القول}، وهذه مرتبةُ السرِّ، والمخافتة. وقال الفَخْر: المراد بقوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ}، كونُه عارفاً بمعاني الأذكار التي يقولها بلسانه، مستحضراً لصفاتِ الجلالِ والعظمة، وذلك أن الذكْرَ باللِّسَان، إِذَا كان عارياً عن الذكْر بالقلْب، كان عدِيمَ الفائدة، ألاَ تَرَى أن الفقهاء أجمَعُوا على أنَّ الرجُلَ، إِذا قال: بِعْتُ واشتريت مع أنَّه لاَ يَعْرفُ معانِي هذه الألفاظ، ولا يفهم منها شيئاً، فإِنه لا ينعقد البَيْعُ والشراءُ، فكذلك هنا، قال المتكلِّمون: وهذه الآية تدُلُّ على إثبات كلامِ النفْس. وقوله تعالى: {وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين}، يدُلُّ على أن الذكْرَ القلبيَّ يجبُ أن يكون دائماً، وألاَّ يغفُلَ الإنسان لحظةً عن استحضار جلالِ اللَّهِ وكبريائِهِ بقَدْر الطاقةِ البشريَّة، وتحقيقُ القول في هذا أنَّ بَيْنَ الرُّوحِ والبدنِ عَلاَقةً عجيبةً؛ لأَن كلَّ أثر يحصُلُ في البدَنَ يصْعَدُ منه نتائجُ إِلى الرّوحِ؛ أَلاَ تَرَى أنَّ الإِنسان إِذا تخيَّل الشيء الحامِضَ، ضَرَسَ منه، وإِذا تخيل حالَةً مكروهةً، أو غَضِبَ، سَخِنَ بدنه. انتهى. و{تَضَرُّعًا}: معناه: تذُّلَلاً وخُضُوعاً، البخاريُّ: {وَخِيفَةً}، أي: خوفاً انتهى. وقوله: {بالغدو والأصال}: معناه: دَأَباً، وفي كلِّ يوم، وفي أطرافِ النهارِ، {وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين} تنبيهٌ منه عزَّ وجلَّ، ولما قال سبحانه: {وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين}: جَعَل بعد ذلك مثالاً من اجتهاد الملائِكَةِ؛ لِيَبْعَثَ على الجِدِّ في طاعة اللَّهِ سبحانه. * ت *: قال صاحبُ الكلم الفارقية: غفلةُ ساعةٍ عَنْ ربِّك مَكْدَرَة لمرآةِ قَلْبِكَ؛ فكَيْفَ بِغَفْلَة جميعِ عُمْرك. انتهى. قال ابن عطاء اللَّهِ رحمه اللَّه: لا تتركُ الذِّكْر، لِعَدَمِ حُضُورك مع اللَّه فيه؛ لأن غفلتك عن وُجودِ ذكْرِهِ أشدَّ مِنْ غفلتك في وجودِ ذكْرِهِ فعسى أن يرفعك مِنْ ذكْرٍ مع وجود غفلة، إِلى ذكْرٍ مع وجودِ يَقَظَةٍ، ومن ذِكْرٍ مع وجود يقظةٍ إِلى ذكْرٍ مع وجودِ حُضُورٍ، ومِنْ ذكْرٍ مع وجود حضور، إِلى ذكْرٍ مع وجود غيبة عمَّا سوى المذْكُور، وما ذلك على اللَّه بعزيز. انتهى، قال ابن العَرَبِيِّ في أحكامه: قوله تعالى: {وَلاَ تَكُن مِّنَ الغافلين}: أي: فيما أُمِرْتَ به، وكُلِّفْتَه، وهذا خطابٌ له عليه السلام، والمراد به جميعُ أمته. انتهى. وقوله: {الذين}، يريد به الملائكةَ. وقوله: {عِندَ}، إِنما يريد به المنزلةَ، والتشريف، والقُرْبَ في المكانة، لا في المكان، فَهُمْ بذلك عنده، ثم وصف سبحانه حَالَهُمْ؛ مِنْ تواضعهم، وإِدمانهم العبادة، والتَسبيحَ والسُّجودَ، وفي الحديث: «أَطَّتِ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَها أَنْ تَئِطَّ مَا فِيهَا مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلاَّ وَفِيهِ مَلَكٌ قَائِمٌ، أَوْ رَاكعٌ، أَوْ سَاجِدٌ» وهذا موضع سجدة. قال عَبْدُ الرحمن بْنُ محمَّدٍ عفا اللَّه عنه: كَمُلَ ما انتخبناه في تفسير السورة، والحمد اللَّه على ما به أنعم، وصلَّى اللَّه على سيِّدنا محمَّد وآله وسلَّمَ تَسْليماً كثيراً. .سورة الأنفال: قال مجاهد: إلا آية واحد، وهي قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} الآية. ولا خلاف أن هذه السورة نزلت في شأن بدر وأمر غنائمه. .تفسير الآية رقم (1): قوله عز وجل: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأنفال...} الآية، النَّفَلُ والنَّافلة، في كلام العرب: الزِّيَادَةُ على الواجب، والأكثرُ في هذه الآيةِ أنَّ السؤال إِنما هو عَنْ حُكْمِ الأَنفال، وقالَتْ فرقةٌ: إنما سألوه الأَنْفَالَ نفْسَها؛ محتجِّين بقراءة سعد بن أبي وقَّاص وغيره: {يَسْئَلُونَكَ الأَنْفَالَ} وعن أبي أمامة الباهليِّ، قال: سَأَلْتُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ عَنِ الأَنْفَال، فَقَالَ: فِينَا- أَهْلَ بَدْر- نَزَلَتْ، حِينَ اختلفنا، وَسَاءَتْ أَخْلاَقُنَا، فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِيَنَا، وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُوله صلى الله عليه وسلم وقَسَمَهُ عليه السلام- بَيْنَ المُسْلِمينَ عَلَى بَوَاءٍ- يريد: على سَوَاءٍ- فكان في ذَلِكَ تَقْوَى اللَّه وطَاعَةُ رسوله، وصلاحُ ذات البين. قال * ع *: ويجيء مِنْ مجموع الآثار المذكُورة هنا؛ أن نفوسَ أهْلَ بدر تنافَرَتْ، ووقع فيها ما يَقَعُ في نفوس البَشَرَ؛ مِنْ إِرادة الأثرة، لاسيما مَنْ أَبْلَى، فأنزل اللَّه عزَّ وجَلَّ الآيةَ، فَرضِيَ المسلمون، وسَلَّموا، فأصْلَح ذاتَ بينهم، ورَدَّ عليهم غنائمهم. قال بعضُ أهل التأويل؛ عكرمة، ومجاهد: كان هذا الحُكْمُ من اللَّه سبحانه لِرَفْعِ الشَّغَبِ ثم نُسِخَ بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 41]. وهذا أولَى الأقوال وأصحُّها. وقوله سبحانه: {وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ}: تصريحٌ بأنه شَجَرَ بينهم اخْتِلاَفٌ، ومالت النفوس إِلى التَّشَاحِّ، و{ذَاتَ} في هذا المَوْضِعِ يُرَادُ بها نَفْسُ الشيء وحقيقته، والذي يُفْهَمُ من {بَيْنِكُمْ} هو معنى يعم جَمِيعَ الوُصَلِ، والالْتِحَامَات، والمَوَدَّات، وذات ذلك هو المَأْمُور بإِصلاحها، أي: نفسه وعينه، وباقي الآية بَيِّنٌ. .تفسير الآيات (2- 4): وقوله سبحانه: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ...} الآية، {إِنَّمَا} لفظ لا تُفَارِقُهُ المُبَالَغَةُ والتأكيد؛ حيث وقع، ويصلح مع ذلك لِلْحَصْرِ، بحسب القرينة، فقوله هنا: {إِنَّمَا المؤمنون} ظاهرها أنَّها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون. قال الشَّيْخُ أبو عَبْدُ اللَّه محمد بن محمد بن أحمد الأَنْصَارِيّ الساحلي المالقي في كتابه الذي ألَّفَهُ في السلوك: واعلم أن الإنْسَانَ مطلوب بطَهَارَة نفسه، وتزكيتها، وطُرُقُ التزكية وإن كَثُرَتْ، فطريق الذِّكْرِ أسرع نفعاً، وأقرب مَرَاماً، وعليه دَرَجَ أكثر مشائخ التربية، ثم قال: والذِّكْرُ ضد النسيان، والمطلوب منه عِمَارَةُ الباطن باللَّهِ تعالى في كل زمان، ومع كل حال؛ لأن الذِّكْرَ يَدُلُّ على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المَحَبَّةَ له، والمعرفة به، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه، فلكل معنًى من معانيه اختصاص بنوعٍ من التَّحْلِيَةِ والتخلية، والتزكية، ثم قال: والذِّكْرُ على قسمين: ذكر العامة، وذِكْرُ الخاصة. أما ذِكْرُ العامة، وهو ذِكْرُ الأجور، فهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بما شاء من ذِكْرِهِ لا يقصد غير الأجور والثواب، وأما ذكر الخَاصَّة، فهو ذِكْرُ الحضور، وهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بأذكار مَعْلُومَةٍ، على صفة مَخْصُوصَةٍ؛ لِينال بذلك المَعْرِفَةَ باللَّهِ سبحانه بطهارة نَفْسِهِ من كل خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وتحليتها بكل خُلُق كريم. انتهى. و{وَجِلَتْ}: معناه: فَزِعَتْ، وَرَقَّتْ، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العُلَمَاءُ. و{تُلِيَتْ} معناه: سُرِدَتْ، وقرئت، والآيات هنا: القرآن المَتْلُوُّ. ومن كلام صاحب الكلم الفارقية: إن تَيَقَّظْتَ يقظة قلبية، وانْتَبَهْتَ انتباهة حقيقية لم تر في وَقْتِكَ سَعَةً لغير ذِكْرِ ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإِقبال على طاعته، ما في وَقْتِ العاقل فَضْلَةٌ في غير ما خُلِقَ له من عبادة خالقه، والاهتمام بمَصَالِحِ آخرته، والاستعداد لمَعَادِهِ، أعرف العبيد بجلالِ مَوْلاَهُ أَخْلاَهُمْ عما سواه، وأكثرهم لَهَجاً بذكره، وتعظيماً لأمره، وأحسنهم تَأَمُّلاً لآثار صنعته، وبدائع حِكْمته، وأشدهم شَوْقاً إلى لقائه، ومشاهدته انتهى. وزيادة الإيمان على وجوه كلها خَارِجٌ، عن نَفْسِ التصديق: منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حُكْماً من أحكام اللَّه عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه، فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به؛ إذ لكل حُكْم تَصْدِيقٌ خاص، وهذا يَتَرتَّبُ فيمن بَلَغَهُ ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القِيَامَةِ، وترتب زيادة الإِيمان بزيادة الدَّلاَئِلِ، ولهذا قال مالك: الإِيمان يَزِيدُ ولا ينقص، ويترتب بِزِيَادَةِ الأعمال البَرَّةِ على قول من يَرَى أنَّ لَفْظَةَ الإيمان واقعة على التَّصْدِيقِ والطاعات، وهؤلاء يقولون: يزيد وينقص. وقوله سبحانه: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} عبارة جامعة لِمَصَالِحِ الدنيا والآخرة إذا اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يَمْتَثِلَ الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أَقْصَى جهده دون عجز، وينتظر بعدما وعد به من نَصْرٍ، أو رزق، أو غيره، وهذه أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ وَصَفَ اللَّه بها فُضَلاَءَ المؤمنين، فجعلها غاية للأُمَّةِ يَسْتَبِقُ إِليها الأَفَاضِلُ، ثم أَتْبَعَ ذلك وَعْدَهُمْ وَوَسْمَهُمْ بإِقامة الصلاة، ومَدَحَهُمْ بها حَضَّا على ذلك. قوله: {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ}. قال جَمَاعَةٌ من المفسرين: هي الزَّكَاةُ وإِنما حملهم على ذلك اقْترَانُ الكلام بإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وإِلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخَيْرِ، وَصِلاَتِ المستحقين، ولفظ ابنَ عَبَّاسٍ في هذا المعنى محتمل. وقوله سبحانه: {لَّهُمْ درجات} ظَاهِرُهُ، وهو قَوْلُ الجمهور أن المراد مَرَاتِبُ الجنة، ومنازلها، ودرجاتها على قَدْرِ أعمالهم، {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} يريد مَآكِلَ الجنة، ومَشَارِبَهَا، و{كَرِيمٌ} صفة تقتضي رَفْعَ المَذَامِّ، كقوله: ثوب كَرِيمٌ.
|